دمعة عالم ؛ محمد بناط بين طوكيو و الجزائر !!
بقلم فضيل بوماله
سنة 1991، عاد للجزائر من اليابان الصديق العزيز البروفيسور محمد بناط. و”محمد”، ابن تنس، عالم فيزيائي وباحث شهير في مجالات الهندسة الحرارية و ميكانيكا السوائل و صاحب الاثبات التجريبي لنظرية الفراغ داخل المفاعلات. وقد وظفت نتائج أبحاثه في رحلة إنديڨر الفضائية سنة 1992 والتي كان يفترض أن يكون على متنها رفقة عالمين آخرين لولا “عامل السن” الذي حال دون ذلك.
عرفته سنة 1989 وعاد سنتين بعدها بإرادة فولاذية ومشروع ضخم لإصلاح منظومة التعليم والبحث العلمي اعتمادا على مقدرات الجزائر وتراثاتها وكذا على تجارب اليابان وكوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورة مع بعض الخبرات الانجلوساكسونية الألمانية الأمريكية تحديدا.
واتذكر حين استقبلته بالمطار أنني وجدته يتألم على طريقة الياباني المسالم لأنه تعرض لإهانة وهو يغادر الطائرة وأخرى في طابور شرطة الحدود وهو ينتظر دوره. خففت عنه بالهاءه عن الأمرين: مضيف الطائرة اولا وقصة الشرطي والجمركي رفقة صديقهم الطرابانديست ثانيا.
كان يفترض أن يزور والدته ثم يعود لإلقاء محاضرة كنت برمجتها له بجامعة العلوم والتكتولوجيا،هواري بومدين، بباب الزوار ثم يلتقي بمدير البحث بوزارة التعليم العالي وأخبرني أن لقاء ثالثا له سيكون بالمحافظة السامية للبحث.
ومرت أيام وهو ينتظر ذلك الموعد مع محافظ(مدير) المحافظة السامية للبحث(HCR) دون جدوى. وفي اليوم الذي حدد له ذلك الموعد المشؤوم، طلب مني مرافقته. وبما أن المحافظة كانت تابعة للرئاسة وتخضع لرقابة عسكرية خاصة وهي تقع أسفل مقر وزارة الدفاع وتجنبا لاي تعقيد، رافقته وبقيت بانتظاره عند أحد الاصدقاء يدير مكتبة تجارية داخل فندق الاوراسي.
كان الموعد في الساعة الثالثة والنصف زوالا..انتظرته للخامسة والنصف فالسادسة ولم يعد. وعلى غير عادتي، لم أملَّ من طول الانتظار بل فرحت بذلك. قلت في نفسي حينها” والله..هذا مؤشر خير.. فلعل أبحاثه الدقيقة وكذا مشروعه القومي الضخم الذي تصوره على شكل “مخ” شامل متعدد العقول والتجارب، وجدوا آذانا صاغية خدمة للبلاد.
في السادسة والربع، خرجت أمام مدخل الاوراسي للمشي في الحديقة وطريق المرأب بانتظار مقدمه.. وفي الوقت الذي كنت اوصي فيه أحد أعوان أمن بوابة الفندق حتى رأيت “عالمنا” يحاول قطع الطريق باتجاهي منهك القوى وهو يحمل حاسوبه وملفاته مكفهر الوجه أصفره.
وبدل الذهاب نحو السيارة اقترحت عليه شايا بمقهى الفندق فرفض وفي حلقه غصة رافقتها دموع حارقة. لم أدر ما العمل في وضع محرج كهذا سوى أنني شددت على يده بحرارة ثم ربت على كتفه. مرت دقائق ويداه ترتجفان وهو الاستاذ الخبير في “الفنون القتالية” حتى فاجأني بكلمات متفرقة وبلهجة حادة :” خيان(أي خونة)..Les salauds.. هذا البلاد ما تنوضش..Les criminels..هذو لازمهم La guillotine..راني نعرفهم..Je les connais depuis 1968..شا صرالي وخلاني نولي للبلاد… On nous chasse..حرموا علينا بلادنا…واش بقى لي هنا غير الحاجة( يقصد والدته)..الخ.
أدركت صدمته من شيء ما كان متوقعا. لكن تخميني لم يصل تلك الدرجة من “السفالة” و”الإهانة ” اللتان تعرض لهما عالمنا محمد بناط.. كان في الموعد بدقة اليابانيين..استقبل بقاعة الانتظار السفلى وطلبت منه وثيقة هويته فأعطاهم جواز سفره ثم أعطي ورقة يجب أن يختمها مكتب المحافظ ويعيدها إليهم كاثبات للقاء دخولا وخروجا..ثم رافقه عون الاستقبال لصالون أمانة السيد المدير بدرجة وزير.الى هنا الأمور بيروقراطية وبروتوكولية عادية في بلد كالجزائر.
ما لم يكن في حسبان عالمنا وباحثنا القادم من اليابان أنه سيتنظر وينتظر و……ينتظر ذلك اللقاء الى اليوم. أحضرت له قهوة وقيل له أن المحافظ عائد من الرئاسة وسيصل بعد نصف ساعة على الأكثر..بعد ساعة إلا الربع سأل فقيل له لقد وصل و سيستقبله بعد اجتماع سريع مع فريق عمله. بعد خمس وعشرين دقيقة أخرى نفذ صبره وراح يسأل مجددا فقيل له “لا يزال بالاجتماع ويعتذر عن التأخير”..بعد خمس دقائق( وكان الوقت حينها الخامسة والربع) غادرت الأمينة المكتب وأخبرته أن المدير سيخرج إليه بنفسه بعد لحظات. غادرت الموظفة و بقي محمد ينتظر ولم يخرج لاستقباله أي شخص..انتفض وقرر المغادرة…ولما عاد أدراجه منفعلا ليسترجع جواز سفره ويلتحق بي رفض عون الامن تسليمه الوثيقة بدعوى أن ورقة الاستقبال إياها ليست مختومة..كما أنه لم يصدق قصة عدم استقباله..وحجته في ذلك ماذا كنت تفعل هناك والمدير قد غادر مقر المحافظة السامية للبحث منذ عشر دقائق؟ واحتدم الموقف وارتفعت الأصوات وكاد عالمنا أن يفقد عقله..وحينها اتصل العون بمسؤوله الذي يبدو أنه اتصل بدوره بالسيد المحافظ..ليتم في النهاية”الإفراج عنه” بكفالة نسخة طبق الأصل من جواز سفره.
وبعيدا عن الاهانة، بربكم كم تساوي “دموع عالم” في بلد مقاليد حكمه بيد أراذل القوم من الخونة والسراق والمجرمين والجهال؟
فضيل بوماله