الأمم لا تموت فجأة، بل تتآكل ببطء …

الأمم لا تموت فجأة، بل تتآكل ببطء…
في عالمٍ يتغير بسرعة الضوء، هناك دولٌ تُعيد تعريف ذاتها كل يوم، تبني المستقبل بالعلم، بالعقل، بالشفافية، وبالإيمان بأن الإصلاح لا يتحقق بالشعارات بل بالخطط. دولٌ تتسابق نحو التحول الرقمي، تزرع في أبنائها الثقة، وتُقدّر الفكرة مهما كانت بسيطة، لأنها تدرك أن المستقبل لا ينتظر أحدًا. وفي الجهة المقابلة، هناك مجتمعات ما زالت أسيرة الماضي، تنظر إلى الوراء أكثر مما تنظر إلى الأمام، تُمجّد التاريخ وتخشى التغيير، وتخلط بين الوفاء للماضي والجمود فيه. نحن نعيش الحاضر بعقلية الأمس، نتدلى بين عجزٍ عن مسايرة التطور، وعنجهيّة في التمسك بما انتهى، حتى صار الماضي سجنًا لا ذاكرة.
بينما يسعى العالم إلى تقليص الورق ومكافحة البيروقراطية، ما زالت مؤسساتنا ترفع الورقة كرمزٍ للسلطة، وتعتبر الختم دليلًا على القوة، والضبابية سلاحًا لحماية المصالح. نُدافع عن التعقيد باسم النظام، ونحارب الشفافية باسم “الاحتياط”. المواطن يضيع بين المكاتب، والمشروع يغرق في المتاهات، والإدارة تتعامل مع الوقت وكأنه ملكٌ خاص لا يعني أحدًا سواها.
أما الشباب، فهم القصة الأكثر ألمًا. يموتون ببطء، لا لأنهم ضعفاء، بل لأن الأمل يُسحب من تحت أقدامهم كل يوم. يعيشون بين الكبت والانكسار، بين وعيٍ مشوّه وواقعٍ لا يرحم. يبحثون عن معنى في وسط الضجيج، فيجدون التفاهة طاغية، والمحتوى الهابط مسيطرًا، والقدوة غائبة. شبابٌ يمتلكون التكنولوجيا ولا يمتلكون الرؤية، يحلمون بالحرية ويخشونها، يريدون التغيير لكنهم سجناء الخوف من الفشل. كيف يُطلب من جيلٍ لم يُمنح الفرصة أن يصنع المعجزة؟
قراراتٌ تُتخذ في لحظة غضب أو ارتجال، مشاريعٌ تبدأ وتنتهي بلا تقييم، وسياساتٌ تُبنى على الانطباع لا على الدراسة. سجونٌ امتلأت حتى باتت تُنافس في موسوعة الأرقام، وبيئة اقتصادية تُكافئ الولاء أكثر مما تُكافئ الكفاءة. رجل الأعمال يخاف من النجاح لأن النجاح يجلب العيون، والإداري يريد أن يكون شريكًا في كل مشروع لا رقيبًا عليه. هكذا تُقتل المبادرة، وهكذا تُجهض الأفكار قبل أن تولد.
المسؤولية ليست حكرًا على الحاكم أو الوزير، بل على المجتمع كله. نحن نشارك في هذا التراجع حين نصمت، حين نُبرر الرداءة، حين نُصفق للخطأ لأن الصمت أريح من المواجهة. كل مرة نُسكت فيها صوتًا حرًّا، نمنح الجهل مساحةً جديدة. وكل مرة نُطأطئ فيها الرأس، نخسر شيئًا من كرامتنا الجماعية.
الأمم لا تموت فجأة، بل تتآكل ببطء، حين يختفي الإحساس بالمسؤولية ويصبح الخوف أسلوب حياة. حين يُصبح التفكير تهمة، والاختلاف خيانة، والسكوت فضيلة. نحن لا نحتاج إلى مزيد من الشعارات، بل إلى مواجهة الذات، إلى شجاعة الاعتراف بأننا تائهون بين ما كنا عليه وما يجب أن نكونه. المستقبل لا ينتظر، والتاريخ لا يرحم من اختار التراجع طوعًا.





