حين تُصاب الدولة بالمغص السياسي …

حين تُصاب الدولة بالمغص السياسي
ليس بالضرورة أن تتصفوا بالرجولة وانتم أشباه رجال،
وليس بالضرورة أن تدّعوا القوة وانتم في عمق الارتباك.
فالرجولة السياسية لا تُقاس بالنبرة ولا بالظهور ولا ب ” طز يا وعدي ” أو ” طاطا ختك “، بل بثبات القرار وحكمة التصرّف حين تتشابك الأزمات وتتداخل الضغوط.
قضية صنصال لم تكن حدثًا عابرًا، بل مرآة صافية تعكس هشاشة صناعة القرار السياسي في هذا البلد، وانعدام الرؤية الإستراتيجية لدى من يُفترض أنهم حراس السيادة ومهندسو المواقف.
لقد أُطلق سراح الرجل في لحظة ارتباك، لا في لحظة وعي، وكأن القرار وُلد من تقلصٍ سياسي مؤلم أكثر منه من مبدأٍ وطني محسوب.
وهنا بيت الخلل: حين تتحول القرارات السيادية إلى ردّات فعل ظرفية، لا إلى نتاج تقدير دولة تعرف ماذا تفعل ولماذا تفعل.
منطق الدولة لا يُدار بالمزاج، ولا بالانفعال اللحظي.
ومن يدّعي الرجولة في السياسة عليه أن يتحمّل ثقل الموقف قبل أن يتغنّى بصورته أمام الناس.
رجال الدولة الحقيقيون لا يترنّحون أمام ضغط الرأي العام، ولا يطلقون قراراتهم حين الإحساس بالمغص ثم يتراجعون عنها حين يزول الألم.
إنهم يفكرون قبل أن ينفذوا، ويُقدّرون قبل أن يُقرروا، ويحملون مسؤولية كل خطوة حتى النهاية.
لقد كشفت هذه الواقعة أن ما ينقصنا ليس القوانين ولا المؤسسات، بل رجال دولة بالمعنى الأخلاقي والسياسي للكلمة.
رجالٌ لا تُربكهم العواصف، ولا تدفعهم نزوات الخوف إلى قرارات مرتجلة، ولا يختبئون خلف خطاب السيادة لتبرير الضعف.
أليس من الأجدر، إن كنا نبحث عن مصالحة حقيقية مع الوطن، أن نمدّ هذا المنطق حتى نهايته؟
أن نُعيد النظر في ملفات مساجين الرأي ومساجين الحق العام الذين تجاوزوا السبعين، فالوطن لا يَكبر إلا حين يغفر لأبنائه الكبار، ويستعيد رجولته السياسية بالعفو لا بالانتقام، وبالصفح لا بالإذلال.
الرجولة الحقيقية لا تُمارس في المؤتمرات، بل في القرارات التي تُنقذ كرامة الدولة من العبث.
والمصالحة مع الوطن تبدأ عندما تتصالح الدولة مع نفسها، مع ضميرها، ومع من أساؤوا إليها بالكلمة لا بالسلاح.
إنّ قضية صنصال ليست سوى جرس إنذار جديد في سجلٍ طويل من القرارات التي تُتّخذ على وقع الانفعال وتُلغى على وقع الندم.
ولعلنا نحتاج، أكثر من أي وقت مضى، إلى رجال لا يُعانون من المغص السياسي، بل يملكون معدةً من فولاذ وضميرًا من نور.





